يُعدّ لبنان، جوهرة البحر الأبيض المتوسط، موطناً لتنوع نباتي استثنائي. فبفضل مناظره الطبيعية المتنوعة، التي تتراوح بين السهول الساحلية وقمم الجبال الشاهقة، يحتضن 2,612 نوعاً من النباتات الوعائية، 108 منها لا توجد في أي مكان آخر في العالم. ومع ذلك، فإن التوسع العمراني السريع، والتنمية غير المنظّمة، وتغير المناخ تضع ضغوطاً هائلة على هذا النظام البيئي الهش.
تحديد المناطق النباتية الهامة في لبنان
تسلّط دراسة حديثة نُشرت في مجلة الحفاظ على الطبيعة الضوء على “المناطق النباتية الهامة” (IPAs) في لبنان—وهي مناطق ذات ثراء نباتي استثنائي يجب إعطاؤها الأولوية للحفاظ عليها. وقد أُجريت هذه الدراسة من قبل ماجدة بو داغر-خراط، وهيشام الزين، وجيرمينال روهان، مستخدمةً نهجاً قائماً على البيانات لتحديد أهم المناطق لحماية النباتات، مما يوفر خارطة طريق لأصحاب القرار لاتخاذ إجراءات عاجلة.
لماذا تُعتبر النباتات اللبنانية مهمة؟
يتمتع لبنان بتراث نباتي فريد نتيجة موقعه عند التقاء أوروبا وآسيا وأفريقيا. فتنوعه الجيولوجي، وارتفاعاته المختلفة، وظروفه المناخية، مكّنت من تعايش أنواع نباتية متوسطية، وإيرانية-تورانية، وصحراوية-عربية في بيئته.
وقد تم تصنيف لبنان منذ فترة طويلة على أنه “نقطة ساخنة للتنوع البيولوجي”، مما يعني أنه يستضيف عدداً غير عادي من الأنواع، العديد منها مستوطن أو مهدد بالانقراض. ومع ذلك، فإن هذه الثروة النباتية تتعرض لخطر متزايد بسبب التوسع العمراني، وتوسّع الأراضي الزراعية، والنمو السكاني، وهي عوامل تفاقمت بسبب أزمة اللاجئين السوريين، مما أدى إلى تدمير الموائل بمعدل ينذر بالخطر.
تحذّر د. بو داغر-خراط قائلة:
“العديد من الأنواع تختفي حتى قبل أن يتم توثيقها علمياً. بدون تدخل فوري، نحن نخاطر بفقدان جزء لا يُعوَّض من التراث الطبيعي للبنان.”
كيف تم تحديد المناطق النباتية الأكثر أهمية؟
لرسم خريطة المناطق النباتية الهامة، استخدم الباحثون نظام شبكة، حيث تم تقسيم لبنان إلى 1,250 مربعاً، كل منها بقياس 3 كم × 3 كم، وتم تقييم كل خلية بناءً على:
- غنى الأنواع – عدد أنواع النباتات الموجودة.
- القيمة الحفظية للأنواع – وجود الأنواع المستوطنة والنادرة.
- القيمة الحفظية للموائل – الأهمية البيئية للمناطق المختلفة، مثل الغابات، والمنحدرات، والمراعي.
كشفت الدراسة عن 31 منطقة نباتية هامة ذات أولوية، تغطي 3% فقط من مساحة لبنان، لكنها تحتوي على 79% من أنواع النباتات في البلاد. وتم العثور على سبع مناطق تحتوي على نباتات مستوطنة حصرياً في لبنان، مما يجعلها مناطق ذات أهمية قصوى للحماية.
أين تقع أهم المناطق النباتية في لبنان؟
من بين المناطق النباتية الهامة التي حددتها الدراسة:
🔹 جبل صنين – موطن لـ27 نوعاً نباتياً مستوطناً في لبنان، مما يجعله أحد أغنى المواقع النباتية.
🔹 وادي قاديشا – وادٍ محمي غنّي بالنباتات النادرة والمهددة بالانقراض.
🔹 جبل المكمل (أرز بشري) – ملاذ للنباتات المرتفعة، بما في ذلك غابات الأرز الأيقونية.
🔹 منطقة إهمج-جاج – تشتهر بتنوعها الغابي الكبير ونباتاتها الطبية.
🔹 جبل حرمون (جبل الشيخ) – موئل حيوي للنباتات شبه الجافة الموجودة فقط في لبنان وسوريا.
🔹 وادي نهر الكلب ووادي نهر إبراهيم – أنظمة بيئية نهرية تدعم النباتات البرية والمائية.
🔹 ساحل صور – منطقة ساحلية نادرة تحتوي على نباتات متوسطية مهددة بالانقراض.
كما كشفت الدراسة عن فجوات في المعرفة النباتية، إذ لا تزال العديد من المناطق، خصوصاً في المنحدرات الشرقية لجبل لبنان وسلسلة جبال لبنان الشرقية، غير مستكشفة بشكل كافٍ بسبب الظروف الأمنية ونقص المسوحات الميدانية. ومن المحتمل أن تحتوي هذه المناطق على كنوز نباتية أخرى تستدعي البحث والحماية العاجلة.
تهديد التوسع العمراني: خسارة الطبيعة لصالح الخرسانة
ترتبط أزمة التنوع البيولوجي في لبنان ارتباطاً وثيقاً بتاريخه في التوسع العمراني. فبعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991)، أدى إعادة الإعمار إلى بناء غير منظم أدى إلى تدمير مساحات طبيعية شاسعة. فقد تم القضاء على السواحل النباتية لمدينة بيروت تقريباً، ولم يتبقَّ منها سوى جيوب صغيرة من الغطاء النباتي.
وفي السنوات الأخيرة، تضاعف عدد السكان نتيجة تدفق اللاجئين السوريين، حيث ارتفع بنسبة 30% بين عامي 2011 و2013. ونتيجة لذلك، يتم إزالة الغابات وضفاف الأنهار والمنحدرات الجبلية لصالح الإسكان والزراعة والبنية التحتية.
توضح د. بو داغر-خراط:
“الكثافة السكانية مرتبطة مباشرة بفقدان التنوع البيولوجي. فمع تزايد الطلب على الموارد، يتم القضاء على الموائل الطبيعية بشكل لا رجعة فيه في كثير من الأحيان.”
المناطق المحمية: غير كافية لإنقاذ نباتات لبنان
يمتلك لبنان 36 منطقة محمية، تغطي 2.8% فقط من مساحة البلاد. والمثير للقلق أن الدراسة وجدت أن 26% فقط من المناطق النباتية الهامة تقع داخل هذه المناطق المحمية. مما يعني أن 74% من أهم موائل النباتات في لبنان غير محمية قانونياً ومعرضة لخطر التدمير.
تشمل المناطق غير المحمية كلياً: جبل الريحان، وادي جهنم، والمنحدرات الشرقية لجبل لبنان، على الرغم من احتضانها لبعض أندر النباتات في لبنان. وبدون توسيع إجراءات الحماية، قد تنقرض العديد من الأنواع قبل توثيقها علمياً.
دعوة إلى العمل: ما الذي يجب فعله؟
تقدّم هذه الدراسة خارطة طريق لجهود الحفظ في لبنان، ويقترح الباحثون عدة توصيات عاجلة:
✅ توسيع المناطق المحمية لتشمل جميع المناطق النباتية الهامة المحددة في الدراسة.
✅ تطبيق سياسات بيئية أقوى لمنع التوسع العمراني غير المنضبط.
✅ تعزيز الممارسات المستدامة في استخدام الأراضي، مثل الزراعة الصديقة للبيئة وإعادة التشجير.
✅ دعم المبادرات المحلية للحفاظ على البيئة، مثل مناطق “الحِمى” التي تعزز دور المجتمعات المحلية في حماية التنوع البيولوجي.
✅ زيادة الأبحاث النباتية والمسوح الميدانية لتوثيق الأنواع غير المستكشفة.
مستقبل الحفظ البيئي في لبنان
إن حماية المناطق النباتية الهامة ليست مجرد ضرورة بيئية، بل مسؤولية ثقافية أيضاً. فقد استخدمت العديد من النباتات المستوطنة في لبنان عبر القرون في الطب التقليدي والطعام والطقوس. وفقدانها يعني فقدان جزء من هوية لبنان.
علاوة على ذلك، يمكن أن تعود حماية التنوع النباتي بفوائد اقتصادية، حيث إن إدارة المحميات الطبيعية بشكل جيد يمكن أن يعزز السياحة البيئية، ويوفر وظائف مستدامة، ويدعم المزارعين المحليين الذين يعتمدون على النباتات الطبية والعطرية.
تقول د. بو داغر-خراط:
“الحفاظ على الطبيعة لا يتعلق فقط بإنقاذ الأشجار والزهور، بل بالحفاظ على التوازن الدقيق للحياة الذي يدعمنا جميعاً.”
مع التحديات التي تواجه لبنان من توسع عمراني، وتغير مناخي، وأزمات اقتصادية، يقف تراثه الطبيعي على المحك. ومع ذلك، فإن البحث العلمي، والإصلاحات السياسية، والمشاركة المجتمعية يمكن أن تمنح الأمل في إنقاذ قلب لبنان الأخضر قبل فوات الأوان.