يعد لبنان، الواقع ضمن الهلال الخصيب، من أبرز المناطق الغنية بالتنوع الزراعي، حيث يضم مجموعة واسعة من النباتات المزروعة وأقاربها البرية (CWRs). ترتبط هذه النباتات البرية وراثيًا بالمحاصيل الزراعية، مما يجعلها مصدرًا أساسيًا لتعزيز الأمن الغذائي عبر تحسين مقاومة المحاصيل للآفات والأمراض والضغوط البيئية. ومع تفاقم تغير المناخ وتأثيره السلبي على التنوع البيولوجي، بات الحفاظ على هذه الموارد الوراثية أمرًا بالغ الأهمية.
في دراسة حديثة بعنوان “الأقارب البرية للمحاصيل في لبنان: رسم خرائط توزيع أصناف الفصيلة النجيلية (Poaceae) والبقولية (Fabaceae) ذات الأولوية لحفظها”، أعدها إليان سعيد، لورينزو راجي، ماريانا يازبك، فاليريا نيجري، ولميس شلق، ونُشرت في مجلة Genetic Resources and Crop Evolution (2023)، تم تحليل توزيع أقارب المحاصيل البرية في لبنان. هدفت الدراسة إلى تحديد الأولويات بين أصناف الفصيلة النجيلية والبقولية، وتسليط الضوء على أهميتها للأمن الغذائي العالمي والاقتصاد اللبناني. كما استخدمت تقنيات الرسم الخرائطي الجغرافي لتحديد الفجوات في جهود الحفظ، واقتراح استراتيجيات لحماية هذه الموارد الحيوية.
أهمية الأقارب البرية للمحاصيل
تعتبر الأقارب البرية للمحاصيل أنواعًا نباتية برية ترتبط وراثيًا بالمحاصيل المزروعة، مما يجعلها مصدرًا رئيسيًا لتحسين مقاومة المحاصيل لتغير المناخ والأمراض. على مر التاريخ، ساهمت هذه النباتات في تحسين تحمل الجفاف، ومقاومة الآفات، وزيادة إنتاجية المحاصيل من خلال نقل جينات مفيدة. على سبيل المثال، 80% من الصفات المقاومة للأمراض في المحاصيل الزراعية جاءت من الأقارب البرية.
في لبنان، تشمل المحاصيل المرتبطة بأقاربها البرية:
- القمح (Triticum)
- الشعير (Hordeum)
- العدس (Lens)
- الحمص (Cicer)
- البازلاء (Pisum)
تشكل هذه المحاصيل أساس النظام الزراعي والغذائي في المنطقة، مما يجعل الحفاظ على أقاربها البرية أمرًا ضروريًا لضمان الأمن الغذائي على المدى الطويل.
رسم خرائط الأقارب البرية للمحاصيل وتحديد أولويات الحفظ
لتحقيق حفظ فعال للأقارب البرية للمحاصيل، قامت الدراسة بجمع قائمة شاملة تضم 40 نوعًا من الأقارب البرية الموجودة في لبنان، مع التركيز على الأصناف التي تسهم في الأمن الغذائي العالمي والاقتصاد المحلي. ومن هذه القائمة، تم تحديد 16 نوعًا ذات أولوية بناءً على أهميتها الوراثية وقدرتها على تحسين المحاصيل. من بين هذه الأصناف:
- أقارب القمح (Triticum dicoccoides, T. urartu)
- أقارب الشعير (Hordeum spontaneum)
- أقارب الحمص (Cicer judaicum, C. pinnatifidum)
- أقارب العدس (Lens culinaris subsp. orientalis, L. ervoides)
- أقارب البازلاء (Pisum sativum subsp. elatius)
ثم تم تحليل توزيع هذه الأصناف عبر لبنان باستخدام بيانات جغرافية مرجعية من مصادر مختلفة، منها المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ICARDA)، ومنصة التنوع البيولوجي العالمي (GBIF)، وقاعدة بيانات GENESYS، وتمت معالجة البيانات باستخدام برنامج QGIS المتخصص في نظم المعلومات الجغرافية.
النتائج الرئيسية: مناطق التنوع البيولوجي والفجوات في جهود الحفظ
كشفت الخرائط عن منطقتين رئيسيتين للتنوع البيولوجي في لبنان تستحقان التركيز على جهود الحفظ:
- سهل البقاع ومنطقة بعلبك – تحتوي على خمسة أنواع ذات أولوية، مما يجعلها موقعًا مهمًا للحفظ في بيئتها الطبيعية (In-Situ Conservation).
- جبل حرمون ومنطقة راشيا – تضم ستة أنواع ذات أولوية، مما يجعلها منطقة رئيسية للحفاظ على المحاصيل الحبوبية البرية.
لكن الدراسة سلّطت الضوء أيضًا على فجوات في جهود الحفظ، خصوصًا في جنوب غرب لبنان، حيث هناك حاجة إلى مزيد من المسح الميداني. كما أن المناطق الساحلية، المتأثرة بشدة بالتمدن والنشاط الصناعي، أظهرت انخفاضًا في أعداد الأقارب البرية للمحاصيل، مما يشير إلى تدمير محتمل للموائل الطبيعية.
استراتيجيات الحفظ: الحفظ في الموقع مقابل الحفظ خارج الموقع
لضمان حماية الأقارب البرية للمحاصيل، توصي الدراسة بتبني استراتيجية مزدوجة للحفظ:
1. الحفظ في الموقع الطبيعي (In-Situ Conservation)
- إنشاء محميات جينية في المناطق الغنية بالتنوع البيولوجي مثل سهل البقاع وجبل حرمون.
- تعزيز الزراعة التقليدية التي تحافظ على الأقارب البرية إلى جانب المحاصيل المزروعة.
- تنفيذ برامج مراقبة مستمرة لمتابعة التغيرات في أعداد السكان والتهديدات البيئية.
2. الحفظ خارج الموقع الطبيعي (Ex-Situ Conservation)
- جمع وتخزين البذور في بنوك الجينات، خصوصًا للأنواع النادرة مثل Cicer judaicum وTriticum boeoticum.
- تطوير بنوك البذور والحدائق النباتية في لبنان لحماية المواد الوراثية.
- تعزيز التعاون الدولي مع مؤسسات مثل ICARDA لتوسيع جهود الحفظ خارج الموقع.
الآثار على الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ
لا يقتصر حفظ الأقارب البرية على حماية التنوع البيولوجي فحسب، بل يرتبط مباشرةً بالأمن الغذائي والقدرة على التكيف مع تغير المناخ. يؤدي تغير المناخ إلى تحولات في درجات الحرارة وهطول الأمطار وانتشار الآفات، مما يجعل تحسين المحاصيل من خلال الجينات البرية ضرورة حتمية.
على سبيل المثال، ساهمت أقارب القمح البرية في تطوير سلالات مقاومة للجفاف، بينما استخدمت الأقارب البرية للعدس والحمص لتعزيز مقاومة الأمراض وزيادة القيمة الغذائية. ويُعد التعزيز الحيوي (Biofortification)—أي تحسين المحتوى الغذائي للمحاصيل—حلاً فعالاً لمواجهة سوء التغذية ونقص المغذيات الدقيقة في بعض المناطق.
الخاتمة: دعوة إلى التحرك
تُشكل دراسة سعيد وآخرين أساسًا متينًا لتخطيط استراتيجيات الحفظ في لبنان، حيث تؤكد على الحاجة الملحة لحماية الأقارب البرية من تدمير الموائل الطبيعية وتأثيرات تغير المناخ. من خلال التركيز على البقاع، بعلبك، وجبل حرمون، يمكن للبنان ضمان استمرار تنوعه الزراعي الغني لدعم الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ وتعزيز برامج تحسين المحاصيل المستقبلية.
ولكن لضمان نجاح جهود الحفظ، هناك حاجة إلى تعاون بين الباحثين وصناع القرار والمجتمعات المحلية. سيكون الاستثمار في مشاريع الحفظ، وتحسين جمع البيانات، وتطوير سياسات زراعية مستدامة أمرًا ضروريًا لحماية هذه الموارد الوراثية الحيوية للأجيال القادمة.
