كشفت سلسلة من المسوحات الميدانية عن مجموعة مذهلة من النباتات على جانب جبل حرمون اللبناني، مما يلقي الضوء على التنوع البيولوجي الغني للجبال والمعرفة التقليدية العميقة التي يمتلكها المجتمع المحلي.
على مدى السنوات القليلة الماضية، وثّق فريق دولي من علماء النبات بقيادة نيللي أرنولد، وصفاء بايدون، ولاميس شلاك، وتوماس راوُس، ما مجموعه 223 نوعاً من النباتات الوعائية من تضاريس جبل حرمون الوعرة. ومن اللافت للنظر، أنه تم تسجيل أكثر من 100 نوع لأول مرة في هذه المنطقة، فيما تُعد 24 نوعاً من الأنواع المندولة الضيقة التي لا توجد إلا في لبنان وسوريا.
عالم مخفي من التنوع البيولوجي
يختبئ بين المنحدرات الجيرية الحادة والمنحدرات الوعرة والمروج العالية، يُعتبر جبل حرمون منذ زمن بعيد مركزاً حيوياً للتنوع البيولوجي. يقول أحد الباحثين الميدانيين: «لطالما علمنا أن حرمون يلعب دوراً حيوياً في النظام البيئي للمنطقة، لكن ما اكتشفناه الآن هو متحف حي للنباتات يفوق توقعاتنا.»
شملت المسوحات، التي بدأت في عام 2011، مجموعة متنوعة من المواطن البيئية—from المنحدرات الصخرية المشرقة بأشعة الشمس إلى الوديان الظليلة التي تسمح بظهور أنواع نادرة. وقد كشفت أعمال الفريق الميدانية الدقيقة ليس فقط عن تنوع الأنواع، بل عن العلاقات البيئية المعقدة التي تطورت على مدى آلاف السنين في هذا الجبل المعزول.
الحكمة التقليدية تلتقي بالعلم الحديث
اعتمدت المجتمعات المحلية منذ زمن بعيد على وفرة النباتات الجبلية لتلبية احتياجاتهم اليومية، بدءاً من الغذاء والعلف مروراً بالدواء والوقود. وفي مقابلات أُجريت خلال العمل الميداني، وصف شيوخ الأعشاب ومداوي القرى كيف تم استخدام بعض الأعشاب البرية لأجيال طويلة. يقول أحد مداوي الأعشاب المحليين: «بالنسبة لنا، الجبل هو صيدليتنا الطبيعية. تعلمنا من أسلافنا استخدام هذه النباتات لعلاج السعال والحمى وحتى الأمراض المعقدة.»
وقد أصبحت هذه الإرث العرقي العريق جزءاً أساسياً من الدراسة؛ فقد جمع الباحثون التقاليد الشفوية والممارسات التقليدية التي تقدم سرداً حياً لكيفية اندماج المجتمعات المحلية مع الطبيعة في حياتهم اليومية. من بين العديد من النباتات التي تم توثيقها، لعبت أنواع من عائلة النجمية (Asteraceae) والنعناعية (Lamiaceae) والورديّة (Rosaceae)—التي تُشكل ما يقارب 40 بالمائة من الأنواع المكتشفة—دوراً بارزاً في الطب الشعبي المحلي. فالشامبيل البري، وأنواع مختلفة من المريمية والنعناع، والعديد من الأعشاب المندولة لا تزال تُستخدم في العلاجات التقليدية التي يعتمد عليها الكثير من السكان.
الأنواع المندولة: مجموعة حصرية من الطبيعة
تُبرز وجود 24 نوعاً مندولياً الدور الفريد لجبل حرمون في تعزيز التنوع البيولوجي. هذه الأنواع، التي تقتصر على منطقة لبنان وسوريا، نشأت نتيجة لعزلها في المواطن الدقيقة المتنوعة داخل الجبل. يقول أحد علماء النبات: «لقد سمح تأثير العزل في حرمون بتطور أنواع فريدة، كأن الطبيعة تجري تجربتها الخاصة.»
تثير هذه الأنواع المندولة اهتمام الحماة البيئيين والباحثين على حد سواء، حيث يمكن أن تكون المصادر المحتملة لاكتشاف مركبات دوائية جديدة. في عصر تنبع العديد من الابتكارات الصيدلانية من المصادر الطبيعية، قد تحمل المواد الكيميائية الفريدة التي تنتجها هذه النباتات النادرة مفاتيح لاختراقات علاجية مستقبلية.
تحديات تنتظر المستقبل
على الرغم من ثراء التنوع البيولوجي، يواجه جبل حرمون العديد من التهديدات. يحذر نشطاء البيئة المحليون من أن الرعي الجائر، والتوسع العمراني، وتحديات تغير المناخ بدأت تؤثر على توازن هذا النظام البيئي الدقيق. يقول أحد المدافعين عن البيئة: «إن نباتات الجبل تحت ضغط متزايد؛ وبدون اتخاذ إجراءات فورية لحماية هذه المواطن، نخاطر بفقدان النباتات والمعرفة التقليدية التي بُنيت عبر قرون.»
يدعو فريق البحث السلطات إلى تبني إجراءات حماية صارمة، من خلال إنشاء أنظمة مراقبة، وحملات توعية عامة، وبرامج تدريبية تمكن المجتمعات المحلية من تبني ممارسات حصاد مستدامة. ويؤكد الفريق: «ما توصلنا إليه ليس مجرد إنجاز علمي، بل هو نداء للاستجابة السريعة لوضع سياسات محلية ووطنية لحماية هذا المورد الثمين.»
التأثيرات الاقتصادية والثقافية
لا تقل الآثار الاقتصادية للدراسة أهمية؛ فبالإضافة إلى استخداماتها الطبية، تحمل العديد من النباتات قيمة محتملة في مجالات الزراعة ومستحضرات التجميل وحتى كنباتات زينة. فقد اعتمدت المنتجات التقليدية مثل الثمار البرية، والعسل المنتج من النباتات الرحيقة، والأصباغ الطبيعية منذ زمن طويل في دعم سبل عيش المجتمعات المحيطة.
بدأ رواد الأعمال المحليون يلاحظون الفرص المتاحة: «هناك فرصة حقيقية لتطوير منتجات صديقة للبيئة تعتمد على نباتاتنا الأصلية،» يقول أحد الحرفيين المحليين. «لن يساعد هذا في الحفاظ على تراثنا الطبيعي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى توفير دخل إضافي لعائلاتنا.»
ولا يمكن إغفال البعد الثقافي للدراسة؛ فبالنسبة لكثير من القرويين، يمثل الجبل أرشيفاً حياً لتاريخهم وهويتهم. فقد كانت الاحتفالات والطقوس التي ترتبط بتفتح بعض النباتات الموسمية جزءاً لا يتجزأ من حياة هذه المجتمعات على مر الأجيال. بهذا، يصبح الحفاظ على نباتات جبل حرمون حماية للنسيج الثقافي للمنطقة.
مخطط للمستقبل
من المتوقع أن تُشكّل القائمة الشاملة التي أعدها الباحثون، بقيادة أرنولد وزملائها، الوثيقة الأساسية للجهود المستقبلية في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي. يقول الفريق: «هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها فحص الجانب اللبناني من حرمون بتفصيل دقيق. ونأمل أن تُمهّد هذه الدراسة الطريق للمتابعة طويلة الأمد وحماية هذا النظام البيئي الفريد.»
وقد أعربت وكالات الحفظ البيئي المحلية والدولية عن اهتمامها بالنتائج. وتُجري بالفعل مناقشات حول مشاريع تعاونية تدمج بين التقنيات العلمية الحديثة والمعرفة البيئية التقليدية. وتهدف هذه المبادرات ليس فقط إلى حماية النباتات، بل إلى ضمان استفادة المجتمعات المحلية من تراثها الطبيعي.
في ظل تغير المناخ
تكتسب الدراسة أهمية إضافية في ظل التغيرات المناخية العالمية؛ إذ إن التغيرات في درجات الحرارة وأنماط الأمطار قد تعيد تشكيل المواطن البيئية الحساسة للجبل بشكل جذري. يحذر أحد العلماء البيئيين المشاركين في المشروع: «إن تغير المناخ هو الفيل في الغرفة؛ وإذا لم نتخذ إجراءات الآن، فقد تتسبب التحولات المناخية في أضرار لا يمكن إصلاحها لهذه البقعة الحيوية.»
وقد دفعت هذه المخاوف إلى دعوات لإجراء المزيد من الدراسات التفصيلية حول تأثير المناخ، مع أمل الباحثين في نمذجة سيناريوهات مستقبلية وتطوير استراتيجيات تكيفية. من خلال دمج المعرفة المحلية مع أحدث ما توصل إليه العلم، يؤمن الخبراء بإمكانية بناء نظام بيئي أكثر مرونة للمحافظة على التنوع.
نداء للعمل
بينما يحل الظلام على جبل حرمون وتبدأ النجوم الأولى بالتلألؤ فوق قممه العريقة، يقف الجبل شاهدًا صامتًا على صمود الطبيعة. ومع ذلك، فإن مستقبله معلق بخيوط رفيعة؛ إذ تؤكد النتائج الحالية الحاجة الملحة إلى استراتيجيات حماية منسقة تعترف بالأهمية البيئية والثقافية لهذه المنطقة.
بالنسبة لسكان جبل حرمون، كل عشبة برية وكل نبتة متفتحة ليست مجرد نموذج نباتي، بل هي خيط حيوي في نسيج تراثهم. من خلال الحفاظ على هذا الإرث الحي، يمكن للعلماء والمجتمعات المحلية وصناع السياسات على حد سواء ضمان استمرار الحكمة القديمة التي تغذي الجسد والروح لأجيال قادمة.