يقع جبل حرمون المهيب بين لبنان وسوريا، وقد وقف شاهدًا صامتًا على قرون من الإيمان والتعبد. بقممه المغطاة بالثلوج التي ترتفع لأكثر من 2800 متر، لم يكن مجرد إعجاز جغرافي، بل كان أيضًا مركزًا روحيًا قديمًا. خلال الفترة الرومانية، كان هذا النطاق الجبلي الوعر يعج بالمزارات والقرى، حيث اندمجت الطقوس المحلية مع التأثيرات الإمبراطورية، مما شكل هوية دينية مميزة.
في دراستها “المزارات والقرى في جبل حرمون خلال الفترة الرومانية“، تأخذنا جانين أليكوت في رحلة أثرية وتاريخية، كاشفةً عن الحيوية الروحية لهذه المنطقة. ومن خلال النقوش وأطلال المعابد والنصوص القديمة، تبرز كيف تداخلت الآلهة الإغريقية-الرومانية مع المعتقدات المحلية، ما أدى إلى خلق مشهد ديني مقدس لا تزال آثاره تتردد في الأنقاض حتى اليوم.
جبل الآلهة
لعدة قرون، عُرف جبل حرمون باسم “جبل الآلهة”. تشير النصوص السامية القديمة إلى أنه كان مسكنًا للآلهة، وهو إرث استمر خلال الفترات الهلنستية والرومانية. عُرف الرومان بانفتاحهم على التوفيق الديني، لذا تبنوا المواقع المقدسة الموجودة بالفعل في المنطقة، وكثيرًا ما خصصوا معابد جديدة لكل من الآلهة المحلية والإمبراطورية.
كان في صميم هذه المواقع المقدسة عبادة بعل-حرمون، وهو إله قوي غالبًا ما ارتبط بالإله زيوس، مما يعكس التقاليد الرومانية في استيعاب الآلهة المحلية داخل مجمعهم الديني. لكن الوجود الإلهي في جبل حرمون لم يكن مقتصرًا على إله واحد، فقد كشفت الاكتشافات الأثرية عن مذابح وأضرحة مكرسة لعدة آلهة، بما في ذلك جوبيتر، وزيوس الهيليوبوليتاني، وآلهة محلية أخرى أقل شهرة، كان يعبدها سكان المنطقة من الرعاة والمزارعين.
المزارات بين السحب
تعيد أليكوت بناء خريطة المزارات التي كانت منتشرة عبر تضاريس الجبل الوعرة. كان بعض المعابد يقع فوق القرى، حيث كان الحجاج يصعدون لتقديم القرابين والصلوات، بينما كانت مزارات أخرى مدمجة داخل المستوطنات الريفية، فكانت تشكل مراكز روحية للحياة اليومية.
إحدى المواقع البارزة كانت المعبد في دير العشائر، حيث تكشف النقوش أن المسؤولين الرومان والنخب المحلية كانوا من أبرز رعاته، مما يظهر أن الدين لم يكن مجرد مسألة إيمان، بل كان أيضًا وسيلة لتعزيز المكانة السياسية والاجتماعية. كانت إهداءات المعابد غالبًا تحمل أسماء حكام رومانيين، وأرستقراطيين محليين، وضباط عسكريين، مما يسلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية للمؤسسات الدينية في جبل حرمون في تعزيز الروابط بين السكان المحليين والإمبراطورية.
الطقوس والحج: إيمان حي
لم يكن الدين على جبل حرمون مجرد طقوس جامدة، بل كان نشاطًا حيويًا يتجلى في ممارسات الحج. كان الحجاج يسافرون من مدن بعيدة بحثًا عن البركة والشفاء والحماية الإلهية، وكثيرًا ما كانوا يتركون وراءهم نقوشًا على الجدران الحجرية تحكي عن أمنيات تحققت ونذور أُوفيت.
تسلط أليكوت الضوء على أدلة تشير إلى احتفالات طقسية ومواسم أعياد ومآدب دينية ربما أقيمت داخل هذه المزارات. لم تكن هذه الأحداث مجرد مناسبات دينية، بل كانت تؤدي دورًا أساسيًا في تعزيز الروابط الاجتماعية داخل المجتمعات المحلية، مما جعل الدين قوة موحدة في منطقة كانت مجزأة سياسيًا.
بين روما والقمم المقدسة
على الرغم من أن سكان جبل حرمون كانوا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الواسعة، إلا أنهم نجحوا في الحفاظ على عاداتهم الدينية المحلية، حتى مع استيعاب عناصر من التقاليد الرومانية-اليونانية. يعكس هذا التوازن بين التأثير الإمبراطوري والروحانية المحلية الديناميكيات الدينية الأوسع في الشرق الأدنى الروماني، حيث تجاورت معابد جوبيتر وفينوس مع الأضرحة القديمة المخصصة لبعل وآلهة أخرى محلية.
تبرز دراسة أليكوت هذه المفاوضات الدقيقة بين الإيمان والإمبراطورية، وتوضح كيف أن سكان جبل حرمون لم يتقبلوا الدين الروماني بشكل سلبي، بل قاموا بتكييفه وإعادة تشكيله بما يتناسب مع تقاليدهم. كانت النتيجة منظومة دينية هجينة وغنية، حيث لم تكن المعابد مجرد أماكن للعبادة، بل كانت رموزًا للصمود الثقافي.
أصداء الماضي
اليوم، لا تزال أنقاض هذه المزارات القديمة منتشرة على منحدرات جبل حرمون، مختبئة بين وديانه وقممه الوعرة. بعضها لا يزال مدفونًا تحت التراب، في انتظار من يكتشفه، بينما تقف أخرى صامدة في وجه الزمن، حاملةً على جدرانها نقوشًا تحكي قصص الحجاج والملوك والكهنة الذين وقفوا أمام مذابحها منذ قرون.
تذكّرنا أبحاث جانين أليكوت بأن جبل حرمون لم يكن مجرد جبل، بل كان حدًا مقدسًا، التقى فيه الإيمان بالإمبراطورية في عرض مذهل من التفاني والتحول.
ومع استمرار علماء الآثار في استكشاف هذه الملاذات المنسية، يبقى شيء واحد مؤكدًا: أن الأصداء الروحية لجبل حرمون ستظل تتردد عبر التاريخ، حاملةً همسات أولئك الذين وقفوا بإجلال أمام مذابحه القديمة.
المصدر:
Aliquot, J. (2008). Sanctuaries and Villages on Mt. Hermon during the Roman Period. In T. Kaizer, The Variety of Local Religious Life in the Near East in the Hellenistic and Roman Periods, K. Beerden, L. Dirven & M.J. Versluys (Eds.), Religions in the Graeco-Roman World (Vol. 164, pp. 73–96). Leiden: Brill. ISBN 9789004167353. DOI: